الجزر الثلاث في ضـوء مبادئ تسوية منازعات الحدود

الجزر الثلاث في ضـوء مبادئ تسوية منازعات الحدود

قسم: اخبار العالم » بواسطة adams - 21 نوفمبر 2024
غوغل ايرث

 
عبر عقود طويلة خَلَتْ، انبثق عن قرارات وأحكام القضاء الدولي عدد من المبادئ والقواعد القانونية التي أضحت محل اعتبار في تسوية المنازعات الحدودية والإقليمية، منها على سبيل المثال: مبدأ ثبات الحدود الدولية ونهائيتها، ومبدأ السلوك اللاحق، ومبدأ الإذعان، ومبدأ الإغلاق.

 

وهو ما يقتضي التعرض لهذه المبادئ والقواعد لمعرفة مدى ملاءمتها للتطبيق على قضية الجزر الثلاث، وإمكانية إسهامها في تسويتها، بعيداً عن تحليلها والخوض في مفاهيمها العميقة.

 

أولاً: مبدأ ثبات الحدود الدولية ونهائيتها يُقصد بمبدأ ثبات الحدودية ونهائيتها، تَمتلاع الحدود الدولية بقدر من الاستقرار والرسوخ طالما أن تعيينها تم وفقاً لسند حق يقوم على أساس قانوني سليم خالٍ من أساليب العنف أو الإكراه.  وعلى الرغم مما يوحي به هذا المبدأ من جمود وثبات، إلا أن مُنْحنَى تاريخ العلاقات الدولية لم يعرف السكون أو التوقف، وإنما اتسم بتأرجحه، سلماً وحرباً، تحالفاً وتنافراً، صداقةً وعداوة.

 

بل إن الحدود السياسية كانت ولاتزال، المرآة التي ينعكس عليها واقع تلك العلاقات، وتتقاطع على خطوطها إرادات ومصالح وطموحات الشعوب والحكومات، على حدٍ سواء.

 

 كما كانت وستظل، من الأسباب الرئيسة للولوج في هذه الأنماط المختلفة من العلاقات بشقيها السلبي والإيجابي. على ان اي تعديل في الحدود يجب ان يرتكز على اسانيد مشروعة، كما يجب الا يكون نتاجا لأساليب غير مشروعة وغير معترف بها في القانون الدولي المعاصر، الذي يرفض اكتساب اراضي الغير بالقوة. 

 

انتهاك إيران
 ثبات حدود الإمارات واستقرارها  ان الشرط الأول لوصف الحـدود الدوليـة أو الإقليمية بالثبات والاستقرار، يتطلب وجود أساس لتعيين خط الحدود أو الإقليم المتنازع عليه؛ وتُعد معاهدات الحدود من أهم هذه الأسس ومعها أدلة الإثبات الأخرى، كالسلوك اللاحق، والإذعان، وإغلاق الحجة والخرائط.. وغيرها.

 

ونلاحظ أن أهم سندات الحق المؤسِّسةِ للحدود أو الأقاليم الواجب خضوعها لأحكام مبدأ الثبات والاستقرار غير متوافرة لدى أي من طرفي النـزاع على الجزر الثلاث. فلم يبرما معاهدة أو اتفاقية تحدد مجالات السيادة على المناطق والحدود البحرية والجزرية الواقعة بينهما، الأمر الذي يترتب عليه غياب أهم الأدلة على وجود سند حق يقتضي إعمال المبدأ لإثباته.

 

فهل يعني انتفاء وجود معاهدة بين الطرفين، غياب سند الحق القانوني الأصيل وبالتالي ضرورة البحث عن سند حق في مبادئ قانونية أخرى غير مبدأ ثبات الحدود الدولية ونهائيتها، أم لايزال في قوس كل منهما منـزع لإثبات حقه القانوني في الجزر الثلاث، والمطالبة به وفقاً لهذا المبدأ على وجه الخصوص، دون الحاجة إلى إبراز أدلة أخرى لتدعيم ذلك؟

 

إن المتتبع لقرارات القضاء والتحكيم، يجد في ثناياها بياناً قانونياً يجيب عن هذا التساؤل. فقد دأب القضاء الدولي ـ عندما لا يتوافر أمامه دليل قانوني صريح يُلحق الإقليم بأي من أطراف النـزاع ـ على الموازنة بين الأدلة الوثائقية المتعلقة بأعمال السيادة والاختصاص الإقليمي التي يدّعي كل طرف مباشرته لها على المنطقة محل النـزاع، ثم يقوم بعد ذلك باعتماد الدليل الأكثر رجحاناً لتغليب ادعاء السيادة للطرف الذي تقدم به.

 

ففي نزاع الحدود البرية والبحرية والجزرية بين السلفادور وهندوراس عام 1992، قضت غرفة محكمة العدل الدولية، بأنه في ظل عجز طرفي النـزاع عن تقديم أي مواد تشريعية أو مواد مشابهة توضح على وجه الدقة حدود الأقاليم والمقاطعات التي كانت خاضعة لسلطة التاج الإسباني في المنطقة، فإن المحكمة ستلجأ إلى الأنواع الأخرى من سندات الحق التي تقدم بها الطرفان، وهي عبارة عن الوثائق المتعلقة بهبات الأراضي التي وإن كانت لا ترقى إلى مستوى المراسيم الملكية التي تتحدد بموجبها الوحدات الإدارية، إلا أنها يمكن أن تنهض دليلاً على مواقع الحدود.

 

وفي قضية الحدود بين بوركينافاسو ومالي عام 1986، دفعت هذه الأخيرة أمام محكمة العدل الدولية، بأنه في ظل غياب حدود مثبتة في معاهدة  أو تشريع، فإن على المحكمة التيقن من خط الحدود بطرق أخرى، لربما كان فحص الأدلة المتعلقة بممارسة السيادة الفعالة للاختصاص الإقليمي أمـراً أساسياً فيها.

 

 ومن جانبنا، نرى أن أحكاماً من هذا القبيل ترفع من شأن سندات الحق الإماراتية القائمة على ممارسة وظائف الدولة ومظاهر السيادة على الجزر الثلاث، وتجعل منها مرتكزاً مهماً لإعمال مبدأ ثبات الحدود الدولية لمصلحة الدفاع العربي في مواجهة التصرفات الإيرانية التي لا تجد سنداً سوى في بعض الاعتبارات التاريخية فاقدة الحجية والتوثيق القانوني المثبت.

 

أما بالنسبة إلى الشرط الثاني من شروط إعمال المبدأ، فيتمثل في وجوب أن يكون الخط الحدودي أو الإقليمي مُعيناً وفقاً لما تقضي به سندات الحق أياً كان نوعها، كشرط لوصف هذا الخط بالثبات والنهائية والاستقرار.

 

ومن خلال تحليل الوثائق وتقييم أعمال الاختصاص الإقليمي لدولة الإمارات ـ من تشريعات قضائية وإدارية وسياسية ـ نجد أن صدورها والقيام بها كان بمناسبة ممارسة السيادة على الجزر الثلاث بأسمائها التاريخية المعروفة، وبصورة واضحة ومحددة، وأنها كانت محاكاة لوضع قائم على الجزر منذ القدم.

 

وفي ما يتعلق بالشرط الثالث والأخير، والمتعلق بضرورة أن يكون الحصول على سند الحق قد تم بصورة مشروعة، أو بمعنى آخر أن يكون خط الحدود أو الحصول على الإقليم قد جرى بطريقة غير مخالفة لقواعد القانون الدولي لكي يتم إسباغ صفة الثبات والنهائية عليه، فإن وقائع التاريخ لم تدلنا على أي تصرفات يمكن أن تكشف عن وجود طموحات إقليمية للإمارات ـ سواء قبل قيام الاتحاد أو بعده ـ في أراضي الدول المجاورة، وهو ما يضفي على أعمالها في الجزر صفة المشروعية.

 

وتأسيساً على ما سبق، فإننا نرى أن احتلال إيران للجزر لم يكن استرداداً لحق قانوني أو تاريخي، وإنما كان انتهاكاً منها لمبدأ ثبات الحدود الدولية ونهائيتها:ثانياً: مبـدأ السلوك اللاحق يقصد بمبدأ السلوك اللاحق، كل ما يصدر عن أطراف النـزاع من مواقف، كالبيانات والخرائط والإعلانات والمراسلات وجميع أعمال السيادة التي يباشرونها في المنطقة محل النـزاع، والتي بمقتضاها يمكن الوصول إلى النوايا الحقيقية لهم.

 

والسلوك اللاحق الذي يُعتد به كأساس لتدعيم أسانيد السيادة لأحد أطراف النـزاع، يتجلى في صور عدة يمكن الاهتداء إليها من خلال ما صدر عن القضاء الدولي من قرارات. منها ما صدر عن محكمة العدل الدولية في قضية مينيكويرز و إيكرهوس Minquiers & Ecrehos بين فرنسا وبريطانيا عام 1953، حين قضت بأن إصدار التشريعات والقيام بأعمال الاختصاص المحلي تُعد من قبيل أعمال السلوك اللاحق التي تؤكد ممارسة السيادة على الإقليم.

 

وكذلك القرار الصادر عن المحكمة ذاتها في قضية المعبد بين تايلاند وكمبوديا عام 1962، والذي قضى بأن السلوك اللاحق لتايلاند حيال الخريطة (ملحق رقم 1) منذ صدورها عام 1908 ممثلاً بقبولها خط الحدود المبين فيها وعدم الاحتجاج عليه، يحول دون الاعتداد بأي اعتراض يقدم منها حول البيانات التي تضمنها هذه الخريطة.

 

ويتضح مما سبق، أن السلوك اللاحق يلعب دوراً مهماً في ثبات الحدود الدولية واستقرارها، نظراً إلى إمكانية توظفيه في مواجهة الدول بأعمالها وتصرفاتها، بما يؤدي إلى لجمها عن أن تدعي بما يخالف مسلكها، فضلاً عن إقامة الحجة عليها.
 
خارصة صدرت عام 1651 ويبدو فيها الخليج العربي باسم «خليج القطيف»

 

السلوك اللاحق
يؤكد السيادة الإماراتية على الجزر الثلاث امن خلال فحص أسانيد طرفي النـزاع وإخضاعها للتحليل والتدقيق على ضوء ممارسات القضاء والتحكيم، يتراءى لنا أن السلوك اللاحق يؤكد أحقية دولة الإمارات بالسيادة على هذه الجزر، وآية ذلك في ما يلي: 1-  إن إنعام النظر في الرسائل التي تبودلت بين الشيوخ القواسم على الساحلين الشرقي والغربي للخليج العربي حول المسائل المتعلقة بالجزر الثلاث منذ ما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمان، يكشف عن سلوك لاحق يؤكد مدى اقتناع أولئك الشيوخ بأن الجزر تقع ضمن السيادة العربية الخالصة.

 

وللتذكير بمضمون احدى هذه الرسائل، فقد جاء في الاحتجاج الصادر عن الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة الى الكولونيل (بيلي) المقيم السياسي في الخليج العربي بتاريخ 28 ديسمبر .1864  «وهذي الجزيرة منسوبة إلينا طنب وأبو موسى والصير من دور الآباء والاجداد ولا احد يتعدى أو يعبر فيهن شي بغير رأينا .. إنا لا نتركها أبداً ولا نرضا احد يحط فيها شي بغير اذن منا وهذي احرام محوزة من قديم الزمان . . ».

 

ومما يسترعى الانتباه في هذه الرسالة والرسائل الأخرى التي تبودلت في ما بين القواسم أواخر القـرن الثامن عشر حـول الجزر الثلاث، إنها لم تتضمن أي إشـارات أو تلميحات حول وجود مطالبات إقليمية فارسية في هذه الجزر، مع أنها كانت موضوعاً للكثير من الشكاوى والخلافات في ما بين فرعي القواسم في الساحل الفارسي والساحل العربي من الخليج حول بعض التعديات على حقوق السيادة فيها، كالرعي والاصطياد والعبور، على النحو الذي أشرنا إليه سابقاً.

 

 2- إن السلوك اللاحق للحكومة البريطانية ممثلاً في اعترافها المستمر بسيادة القواسم على الجزر الثلاث، يؤكد سند الحق العربي في هذه الجزر وينفي أي ادعاءات إيرانية بالسيادة عليها. فالوثائق التي أظهرت رفض بريطانيا للدعاوى الفارسية/الإيرانية في الجزر الثلاث، واستعدادها للدفاع عنها عسكرياً في مواجهة أي اعتداء عليها ـ وفقا لما اوضحناه في حلقات سابقة ـ تمثل شهادة دامغة لا مرية فيها على عـروبة هذه الجزر، وتهدم أي حجج أو دعـاوى تاريخية إيرانية تبرر المطالبة بهـا أو احتلالها.

 

 3- تركن دولة الإمارات إلى أنواع متعددة من أدلة السلوك اللاحق، باعتبارها مصادر مستقلة لرفد وتعزيز حقها القانوني في الجزر الثلاث. وقد أتينا على ذكر هذه الأدلة ـ بصورة موجزة ـ من خلال استعراض أسانيد السيادة الإماراتية على الجزر الثلاث، والمتمثلة في قيامها بممارسة وظائف الدولة في صورة أعمال الاختصاص الإداري والقضائي والتشريعي، كإدارة المرافق الأمنية والصحية والتعليمية والبلدية، وجباية الضرائب، والقيام بأعمال التحقيق وجمع الاستدلالات في الجرائم المرتكبة على أرض الجزر ونطاقها البحري، وكذا منح الأذونات بزيارة الجزر الثلاث والرسو على سواحلها، فضلاً عن التعاقدات والامتيازات التي منحها الشيوخ القواسم لعدد من الشركات والأشخاص لاستخراج معدن الأوكسيد الأحمر (المغر) والتنقيب عن النفط.

 

 4- استأثرت دولة الإمارات بممارسة مظاهر سيادتها على الجزر الثلاث من الناحية السياسية، برفع أعلامها على جزيرتي أبو موسى وطنب الكبرى، بالإضافة إلى قيامها بمنح سكان الجزر رعويتها للتدليل على تسليمهم وقبولهم بسيادتها القانونية والسياسية، وخضوعهم للقوانين والأنظمة والأعراف المطبقة فيها.
 
أما في ما يتعلق بالسلوك اللاحق بحق إيران، سواء ما كان صادراً عنها أو عن طرف ثالث، فإنه لا يرقى ـ في رأينا ـ إلى مرتبة الدليل الكافي لإثبات دعواها في الجزر الثلاث، بل إن سلوكها الرسمي الممتد عبر عقود طـويلة مـن الزمـن وحتى تاريخ احتلالها تلك الجـزر في 30/11/1971، يبدو في مجمله متسقاً مع السيادة العربية الثابتة عليها، وذلك لاسباب عدة منها: 1- قيام إيران عام 1930، بتكليف وزير بلاطها (تيمور تاش) بالتفاوض مع الحكومة البريطانية، بوصفها صـاحبة الحماية على مشيخات (الساحل المتصالح)، للوصول إلى صيغة مشتركة لإقناع حاكم رأس الخيمة لتأجير أو بيع جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى إلى الحكومـة الإيرانيـة، ثم طلبها من الوسيط البريطـاني (وليم لوس) التوسط لدى حاكم الشارقة لقبول تعويض مالي مقابل تنازله عن جزيرة أبو موسى، جميعها تصرفات تمثل قاصمة الظهر لأي ادعاء إيراني بالسيادة على هذه الجزر.

 

ذلك لأن من يؤمن بعدالة قضيته وأصالة حقوقه لا يُقْدم على إتيان تصرفات من شأنها التشكيك بشرعية مطالبـة أو الانتقاص منها بتقديم عـروض سرية سخية لتعويض أو استئجار أو شراء ما كان يجاهر بملكيته ويدّعي على رؤوس الأشهاد حيازته التاريخية له، وبالتالي فإن تصرف الحكومة الإيرانية هذا قد أفرغ ادعاءاتها بالجزر من أي حجية أو وزن قانوني.

وهو ما كشفت عنه الوثائق البريطانية المُفرج عنها أخيراً، والتي أبانت خفايا مثيرة من زمن الحقبة الاستعمارية لم تكن لتخطر على بال الساسة والباحثين والمهتمين في شؤون منطقة الخليج. فقد تضمنت مذكرة أعدتها وزارة الخارجية البريطانية في 11 من نوفمبر 1930، بياناً لمقترحين قدمهما الـوزير الفارسي سالف الذكر، الأول: استعداد بلاده للتخلي عن المطالبة بجزيرة أبو موسى مقابل الاستيلاء على جزيرة طنب.

 

والثاني: استئجار جزيرة طنب مقابل مبلغ مالي يتفق عليه. 3- لقد قام السير آر. كلايف بإجراء مشاورات غير مرضية مع وزير البلاط الفارسي في الرابع من أكتوبر 1930، عرض خلالها الوزير تيمور تاش استعداد حكومته للتخلي عن جزيرة أبو موسى فيما لو تم منح جزيرة طنب لفارس، إلاّ أن السير كلايف رفض هذا العرض، مؤكداً أن حكومة صاحبة الجلالة لا يمكنها منح هذه الجزيرة لفارس بحكم أنها لا تقع ضمن السيادة البريطانية، كما أن الشيخ الذي يملكها يرفض التفريط فيها ..

إلا أن الموقف البريطاني المتشدد حيال هذا العرض، كان كفيلاً بتخفيف حدة مطالب الوزير الفارسي وقصرها على محاولة استئجار الجزيرة مقابل مبلغ مالي، مع احتفاظ حاكم رأس الخيمة بالسيادة عليها. فقد نقلت الوثيقة ذاتها عن ( تيمور تاش ) قوله:  «. . . إن الحكومة الفارسية تكتفي باستئجار طويل المدى لجزيرة طنب، بحيث يتم دفع مقابل الاستئجار إلى شيخ رأس الخيمة . . .».

 

وليس ذلك فحسب، بل ان إصرار الجانب الفارسي على عقد هذه الصفقة بلغ حـداً جعله يربط بين نجاحها وبين إتمام توقيع المعـاهدة الانجلو ـ إيرانيـة العتيدة، وهو ما أشـارت إليه الوثيقة ذاتها التي ورد فيهـا، «… وقد أوضح تيمور تاش أن استئجار الجزيرة لفترة طويلة المدى سيكون أحد الشروط التي يمكن مـن خلالها التوصل إلى إبرام معـاهدة بين الطرفين . . ».

 

كما تورد هذه الوثيقة معلومات أكثر تفصيلاً عما دار من مناقشـات بين السير. (كلايف ) والوزير (تاش) حول تأجير الجزر وصلت مدىً تحدَّدت فيه مدة التأجير والمبلغ المقترح منحه للشيوخ القواسم مقابل إتمام الصفقة. فقد جاء فيها «. . .وأخيراً وبحضور وزير الخارجية قال: (تيمور تاش) إذا ما قام الشيخ بتأجير الجزيرة لمدة 50 عاماً للحكومة الفـارسية، فسيُدفع لـه إيجـار مماثل للإيجار الـذي يصلهم منا (الحكومة البريطانية) مقابل استئجار جزيرة هنجام، وذلك سيكون مرضياً للرأي العام الفارسي عندما تكون المعاهدة مطروحة أمام مجلس النواب للتوقيع. .».

 

ويمكن أن نستشف مما سبق، مدى القناعة التي كانت لدى الحكومة البريطانية بعروبة الجزر الثلاث وعائديتها للشيوخ القواسم، إلا أنها رغم ذلك لم تكن تُمانع من جعلها مجالاً لتحقيق مصالحها مع الحكومة الفارسية. وهو ما تحقق على أرض الواقع، إذْ كان من نتائج سياساتها الانتهازية حيال الحقوق العربية، أن قررت ـ في بداية حقبة السبعينات من القرن المنصرم ـ تلبية طموحات حليفها في مواجهة المد القومي العربي، الشاه محمد رضا بهلوي، في احتلال هذه الجزر، وذلك بعد تهافت مزاعمه بجزر البحرين العربية.

 

 إن ما يؤكد اقتناع الحكومة الإيرانية بعدم امتلاكها أي أدلة تثبت دعواها بالجـزر الثلاث، تراجعها عن احتلال جزيرتي طنب الكبرى وأبو موسى عام 1904، بعد أن كانت قد أنزلت العلم العربي عنهما وثبّتَتْ صاريات جديدة ورفعت عليها الأعلام الفارسية بواسطة مجموعة من حراس دائرة الجمارك البلجيكية التي كانت تعمل لمصلحة الحكومة الفارسية في جنوبي البلاد.ثالثاً: مبـــــــدأ الإذعــــــــــان أذعَنَ لغـة، بمعنى انقاد وسَلس، ويقال أذعـن بالحق أي أقـر به.

 

أما اصطلاحاً فقد ذهب البعض إلى تعريف مبدأ الإذعان أو القبول الضمني، بأنه «ذلك القبول المستفاد ضمناً من سلوك الدول وتصرفاتها الإيجابية، أو سلوكها السلبي المتمثل في السكوت أو عدم الاعتراض في ظروف تستوجب وجود رد فعل إيجابي من جانب هذه الدولة لحماية حقوقها ضد اعتداءات الغير التي تشكل مساساً بهذه الحقوق».  

 

إذعــان إيران للسيادة الإماراتية  على الجــزر الثلاث
 فان احالة النظر في أحكام مبدأ الإذعان ستظهر لنا أن تطبيقه لن يكون في مصلحة الدفاع الإيراني عند عرض النـزاع على القضاء الدولي، وذلك من وجهين:  الأول: إن العرض الذي تقدمت به الإمبراطورية الفارسية إلى الحكومة البريطانية عن طريق وزير بلاطها (تيمور تاش) عام 1930، لإقناع حاكم رأس الخيمة الشيخ سلطان بن سالم القاسمي، ببيع أو تأجير جزيرتي طنب للحكومة الفارسية مقابل مبلغ مالي محدد؛ وكذلك عرضها على حاكم الشارقة الشيخ خالد بن محمد القاسمي، عن طريق الوسيط البريطاني (وليم لوس)، دفع تعويض مالي مقابل التنازل عن جزيرة أبو موسى، يشكلان دليلاً قوياً ضد إيران ومسوغاً لإقامة مبدأ الإذعان في مواجهتها.

 

ذلك لأن سلوك الحكومة الفارسية ـ آنذاك ـ  حيال الجزر يؤكد أن ادعاءاتها السابقة فيها لا يُقيمها سندٌ من القانون أو دليلٌ من فاعلية السيادة، وأن اقتناعها بتبعيتها للعرب القواسم حتّمت عليها ـ في ظل رغبتها في الاستحواذ عليها لأسباب داخلية وإستراتيجية ـ التفاوض مع من يمتلك فيها حقاً قانونياً، ويمارس عليها سيادة فعلية.

 

 فليس من المتصور ـ كما بينا سلفا ـ أن تطلب دولة ما من دولة أخرى تأجيرها أو بيعها إقليماً ظلت تؤكد ردحاً من الزمن أن لها حقاً تاريخياً أصيلاً فيه، إلاّ إن كانت ترى في محاولاتها السابقة للاستئثار به مكابرة لا وزن قانونياً لها، ومغالطة لم تقوَ على الصمود أمام حجية سند الحق الذي يحوزه الطرف الآخر.

 

ولذلك فإنه يمكن تقييم إقدام الحكومة الفارسية على طلب شراء الجزر أو استئجارها، باعتباره تصرفاً في صورة سلوك إيجابي رتَّب آثاراً قانونية جوهرية يمكن لأي قاض أو محكم الركون إليها منفردة لحسم النـزاع محل البحث لمصلحة دولة الإمارات، استناداً إلى ما تم استخلاصه من إذعان وقبول ضمني من جانب إيران من خلال عروض الشراء أو الاستئجار السالف ذكرها. 
 3-  إن سكوت إيران وعدم احتجاجها على قيام القواسم بممارسة سيادتهم على الجزر الثلاث عبر عقود زمنية طويلة، يمثل دليلاً آخر على إذعانها للحق العربي في هذه الجزر. ويمدنا القضاء الدولي بأمثلة كثيرة على حجية السكوت في إثبات إذعان الدولة التي لم تعترض لدى الجهات الدولية المعنية عما تراه انتهاكاً لحق من حقوقها من قبل دولة أخرى.

 

منها ما قضت به هيئة التحكيم الخاصة بالنـزاع الحدودي بين كوستاريكا ونيكاراجوا، عندما رفضت دفع هذه الأخيرة بعدم التزامها بمعاهدة الحدود بين الدولتين المبرمة عام 1858، بسبب رفض السلفادور التصديق عليها بصفتها الدولة الضامنة للمعاهدة.  وقد سببت المحكمة رفضها، على أساس أن «حكومة نيكاراجوا قد التزمت السكوت عندما كان يجب عليها أن تتكلم.

وهي بهذا قد تنازلت عن الاعتراض الذي تتمسك به الآن. لقد أبدت استعدادها لتبادل محاضر التصديقات دون انتظار تصديق دولة السلفادور، وهي لا تستطيع الآن أن تتذرع بهذا الواقع كسبب لإلغاء المعاهدة، وقد كان موجوداً ومعروفاً لها حينذاك». 

 

كما ان ايران قد اذعنت اذعانا صريحا لأعمال السيادة العربية على الجزر الثلاث من خلال  الاعتراف الموثق من جانب المسؤولين الإيرانيين بعدم امتلاك إيران أي سند حق سيادي في هذه الجزر. فقد تضمنت إحدى الوثائق الإيرانية التي وردت في صورة رسالة داخلية، وجهتها، في شهر يوليو 1904، وزارة الجمارك والبريد إلى رئيس الوزراء، تبريراً  لإذعان الحكومة الفارسية للاعتراض الموجه من قبل حاكم الشارقة والحكومة البريطانية على رفع أعلامها على جزر طنب وأبو موسى، والذي تمخض عنه إنزال العلم الفارسي وإعادة رفع العربي على الجزر المذكورة.

 

حيث جاء في هذه الوثيقة « . . .  إن ما يتفق عليه الجميع هو أن ملكية الجزيرة المذكورة (طنب) تعود دون شك أو ريب إلى دولة إيران العلية، إلاّ أنه لا يوجد دليل أو وثيقة على ذلك. أما أبو موسى فما تزال هي الأخرى متنازع عليها ».

 

 وعلى الرغم مما تضمنته الوثيقة سالفة الذكر من عبارات تتسق مع النهج الفارسي المعهود حول وجود حقوق تاريخية قديمة في الجزر، إلاّ أنها كشفت عن زيف ادعاءات إيران حيازتها وثائق قانونية تثبت سيادتها على الجزر الثلاث.

 

 رابعاً: مبــدأ الإغـلاق يُقصد بمبدأ الإغلاق أو إغلاق الحجة، أن يُمتنع على أحد أطراف الخصومة الاستفادة من تناقضات سلوكه التي يترتب على إتيانه لها ضرر بالطرف الآخر، أو هو كما عرفه القاضي الفارو ( Alfaro ) في قضية المعبد بين كمبوديا وتايلاند «ان تلتزم الدولة التي تكون طرفاً في منازعة دولية بأعمالها ومواقفها السابقة التي تكون متعارضة مع مطالبها في هذه المنازعة».  وقد سمي مبدأ (الإغلاق) بهذه التسمية لأنه يغلق دون أي من أطراف النـزاع باب العودة عما قام به من أفعال وأقوال، بل ويجعل من تصرفاته وأعماله حجة عليه.

 

 وتطبيقاً لهذا المبدأ، قضت محكمة العدل الدولية في قضية المصائد بين بريطانيا والنرويج عام 1951، بأن تصرف بريطانيا اللاحق وسكوتها لمدة (60) عاماً عن الاعتراض على طريقة النرويج في ترسيم حدودها البحرية، خصوصاً أنها دولة ذات شهرة عالمية في المجال البحري، يغلق عليها الحجة دون رفع دعاوى تتعارض مع موقفها السابق. 

 

إغــلاق الحجـة على إيران
عــن ادعــــاء السيادة على الجـزر الثلاث فبالنظر إلى أحكام وشروط إعمال مبدأ الإغلاق أو إغلاق الحجة، يستبين لنا إمكانية تطبيق هذا المبدأ في مواجهة إيران استناداً على سلوكها اللاحق حيال الجزر الثلاث، والذي يتجلى في ما يلي:
1- إذا كانت إيران تبني ادعاءاتها في الجزر على ما كان لحكام إمـارة (لنجة) القواسم، من سيادة عليها كموظفين فرس وليس عرباً مستقلين، فإنها بهذه الدعوى تكون قد أفرغت كل مطلب لها في الجزر من كل قيمة قانونية، وأغلقت على نفسها الحجة التي تحول دون عودتها لمنازعة دولة الإمارات السيادة عليها.

 

فقد اعترف قواسم (لنجة) صراحة وغير مرة، بانتفاء أي أواصر قانونية أو سياسية تربطهم بالجزر الثلاث، وأكدوا في رسائلهم المتكررة خلال الأعوام 1871 و1872 و1877 و1884، أن هذه الجزر تُمثل حقاً أصيلاً للفرع الرئيس للقواسم في رأس الخيمة والشارقة، وأن بعض التجاوزات التي كانت تقع من قبلهم في الجزر، إنما كانت تتم بحسن نية وانطلاقاً من قوة وشائج القربى التي تجمع بين فرعي القبيلة.

 

ولا شك في أن مثل هذه الاعترافات تحمل في ثناياها مضامين قانونية عميقة الأثر على النزاع محل الدراسة. إذْ إن التسليم ـ ولو جدلاً ـ بالصفة الفارسية لشيوخ  (لنجة)، يترتب عليه ثبوت اعتراف إيران القديم ـ من خلال هؤلاء الشيوخ ـ بالسيادة العربية على بعض الجزر المتنازع عليها، الأمر الذي يؤسس لتطبيق مبدأ إغلاق الحجة في مواجهتها لثنيها عن التراجع عما اعترفت به.

 

وقد أكد القضاء الدولي على إمكانية إعمال مبدأ الإغلاق في مواجهة الدولة التي اعترفت بسيادة دولة أخرى على إقليم معين لمنعها من الرجوع عن قرارها. فقد قررت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية المركز القانوني لجزيرة جرينلاند الشرقية، إغلاق الحجة على النرويج لثنيها عن الاعتراض على قيام الدانمارك بممارسة سيادتها على هذه الجزيرة، وذلك لاعترافها المسبق على لسان وزير خارجيتها السيد (إهلن)، بسيادة الدانمارك على كامل الجزيرة.
 
2- إنَّ تَراجُع إيران عن المضي قدماً في ترسيخ احتلالها جزر طنب وأبو موسى عام 1904، واضطرارها، أمام احتجاجات كل من بريطانيا وحكومة الشارقة، إنزال علمها عن الجزر والانسحاب منها، وما ترتب على ذلك من قبولها إعادة رفع العلم العربي عليها دون تقديم أي احتجاجات أو اعتراضات رسمية موثقة لمواجهة الأوضاع القائمة على هذه الجزر حتى توقيع مذكرة التفاهم عام 1971 حول تقسيم جزيرة أبو موسى وإقدامها على احتلال جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى في العام ذاته، كلها دلائل تؤكد قبولها السيادة العربية على الجزر، وإقرارها عدم قانونية مطالبها فيها، وهو ما يقتضي إغلاق الحجة أمامها والحكم ببطلان ادعاءاتها بسيادتها التاريخية عليها.

 

 ونجد تطبيقا لذلك في تحكيم طابا بين مصر و ( إسرائيل ) عام 1988، عندما دفعت مصر بأن انسحاب (إسرائيل)  من سيناء، بما فيها منطقة طابا، في عام 1957، وتمركز قواتها خلف السلسة الجبلية الواقعة شرق طابا، يُمثل سلوكاً لاحقا يدل على مفهوم خط الحدود من جانب (إسرائيل). وهو ما يسوّغ إقامة مبدأ الإغلاق ضدها لمنعها من رفض الخط الذي سبق وأن قبلته.
 
3- إن الرسالة الموجهـة مـن نائب الحاكم الفارسي لمنطقة لنجـة (مدحت السلطنة)، إلى حاكم الشارقة الشيخ خالد القاسمي في عام 1914، والتي يرجو فيها من الحاكم السماح لعدد من مواطني فارس المقيمين في جزيرة أبو موسى، بالعودة إلى ديارهم في جزيرة (صرّي) الخاضعة للسلطة الفارسية، تُمثل ـ في رأينا ـ اعترافاً صريحاً من إيران بسيادة العرب القواسم على هذه الجزيرة، وهو ما يوجب إقامة الإغلاق ضدها لمنعها من مناقضة  سلوكها السابق  وثيقتان تنشران لأول مرة صادرتان عن وزارة الخارجية البريطانية في 11 من نوفمبر 1930 تتضمنان بياناً لمقترحين قدمهما وزير البلاط الفارسي (عبدالحسين تيمور تاش) الأول يقضي باستعداد بلاده للتخلي عن المطالبة بجزيرة أبو موسى مقابل الاستيلاء على جزيرتي طنب. والثاني استئجار جزيرة طنب مقابل مبلغ مالي يتفق عليه مع شيخ رأس الخيمة. (ملكية الوثائق تعود للكاتب).
مانشيتات قد يهمك